الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)
ولا يقاس على ذلك، فأما أبو الفتح فوجه هذه القراءة بما ذكرناه من تعريف اسم الجنس وبعد ذلك يرجح قراءة الناس قال أبو علي الفارسي: وإنما ذهب من ذهب إلى هذه القراءة لما رأى الفعل أن الصلاة مؤنثة ورأى المسند إليها ليس فيه علامة تأنيث فأراد تعليقه بمذكر وهو المكاء، وأخطأ في ذلك، فإن العرب تعلق الفعل لا علامة فيه بالمؤنث، ومنه قوله تعالى: {وأخذ الذين ظلموا الصيحة} [هود: 67] وقوله: {فانظر كيف كان عاقبة مكرهم} [النمل: 51] {وكيف كان عاقبة المفسدين} [الأعراف: 86- 103، النمل: 14] ونحو هذا مما أسند فيه الفعل دون علامة إلى المؤنث، والمكاء على وزن الفعال الصفير قاله ابن عباس والجمهور، فقد يكون بالفم وقد يكون بالأصابع والكف في الفم، قال مجاهد وأبو سلمة بن عبد الرحمن، وقد يشارك الأنف يقال مكا يمكو إذا صفر، ومنه قول عنترة: [الكامل] ومنه قول الشاعر: ومنه قول الطرماح: [الكامل] ومكت است الدابة إذا صفرت يقال ولا تمكو إلا است مكشوفة ومن هذا قيل للاست مكوة قال أبو علي: فالهمزة في {مكاء} منقلبة عن واو.قال القاضي أبو محمد: ومن هذا قيل للطائر المكّاء لأنه يمكو أي يصفر في تغريده، ووزنه فعّال بشد العين كخطاف، والأصوات في الأكثر تجيء على فعال بتخفيف العين كالبكاء والصراخ والدعاء والجؤار والنباح ونحوه، وروي عن قتادة أن المكاء صوت الأيدي وذلك ضعيف، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ {إلا مكا} بالقصر، والتصدية عبر عنها أكثر الناس بأنها التصفيق، وقتادة بأنه الضجيج والصياح، وسعيد بن جبير بأنها الصد والمنع، ومن قال التصفيق قال: إنما كان للمنع عن ذكر الله ومعارضة لقراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم للقرآن، والتصدية يمكن أن تكون من صدى يصدى إذا صوت والصدى الصوت، ومنه قول الرماح يصف الأروية: [الطويل] فيلتئم على هذا الاشتقاق قوم من قال: هو التصفيق، وقول من قال الضجيج، ولا يلتئم عليه قول من قال هو الصد والمنع إلا أن يجعل التصويت إنما يقصد به المنع، ففسر اللفظ بالمقصود لا بما يخصه من معناه، ويمكن أن تكون التصدية من صد يصد استعمل الفعل مضعفاً للمبالغة والتكثير لا ليعدى فقيل صدد، وذلك أن الفعل الذي يتعدى إذا ضعف فإنما يضعف للتكثير، إذ التعدي حاصل قبل التضعيف، وذلك نحو قوله: {وغلقت الأبواب} [يوسف: 23] والذي يضعف ليعدى هو كقولهم علم وغرم فإذا قلنا في صد صدد ففعل في الصحيح يجيء مصدره في الأكثر على تفعيل وفي الأقل على تفعلة مثل كمل تكميلاً وتكملة وغير ذلك، بخلاف المعتل فإنه يجيء في الأكثر على تفعلة مثل عزى وتعزية وفي الشاذ على تفعيل، مثل قول الشاعر: [الرجز] وإذا كان فعل في الصحيح يتسق فيه المثلان رفض فيه تفعلة مثل قولنا تصدية وصير إلى تفعيل لتحول الياء بين المثلين كتخفيف وتشديد، فلما سلكوا مصدر صدد المسلك المرفوض أصلح ذلك بأن إبدال أحد المثلين ياء كبدلهم في تظننت ونحوه، فجاء {تصدية} فعلى هذا الاشتقاق يلتئم قول من قال التصدية الصد عن البيت والمنع، ويمكن أن تكون التصدية من صد يصِد بكسر الصاد في المستقبل إذا ضج، ويبدل أيضاً على هذا أحد المثلين، ومنه قوله تعالى: {إذا قومك منه يصِدون} [الزخرف: 57] بكسر الصاد، ذكره النحاس، وذهب أكثر المفسرين إلى أن المكاء والتصدية إنما أحدثها الكفار عند مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم لتقطع عليه يمينه وشماله من يمكو ويصدي حتى تختلط عليه قراءته، فلما نفى الله تعالى ولايتهم للبيت أمكن أن يعترض معترض بأن يقول، وكيف لا نكون أولياءه ونحن نسكنه ونصلي عنده فقطع الله هذا الاعتراض بأن قال وما كان صلاتهم إلا المكاء والتصدية، وهذا كما يقول رجل أنا أفعل الخير فيقال له ما فعلك الخير إلا أن تشرب الخمر وتقتل، أي هذه عادتك وغايتك.قال القاضي أبو محمد: والذي مر بي من أمر العرب في غير ما ديوان أن المكاء والتصدية كان من فعل العرب قديما قبل الإسلام على جهة التقرب به والتشرع، ورأيت عن بعض أقوياء العرب أنه كان يمكو على الصفا فيسمع من جبل حراء، وبينهما أربعة أميال، وعلى هذا يستقيم تعييرهم وتنقصهم بأن شرعهم وصلاتهم وعبادتهم لم تكن رهبة ولا رغبة، إنما كانت مُكاء وتصدية من نوع اللعب، ولكنهم كانوا يتزيدون فيها وقت النبي صلى الله عليه وسلم ليشغلوه وأمته عن القراءة والصلاة، وقوله: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} إشارة إلى عذابهم ببدر بالسيف قاله ابن جريج والحسن والضحاك، فيلزم من هذا أن هذه الآية الأخيرة نزلت بعد بدر ولا بد.قال القاضي أبو محمد: والأشبه أن الكل نزل بعد بدر حكاية عما مضى والله ولي التوفيق برحمته.
وقال الضحاك وغيره: إن هذه الآية نزلت في نفقة المشركين الخارجين إلى بدر الذين كانوا يذبحون يوماً عشراً ويوماً تسعاً من الإبل، وحكى نحو هذا النقاش.
وهو مطاوع ماز، وقرأ حمزة والكسائي {ليُمَيّز} بضم الياء وفتح الميم وشد الياء، وهي قراءة الأعرج وطلحة بن مصرف والأعمش والحسن أيضاً عيسى البصري، تقول ميزت أميز إذا فرقت بين شيئين فصاعداً، وفي القرآن {تميز من الغيظ} [الملك: 8] فهو مطاوع ميز ومعناه تتفصل، وقال ابن عباس رضي الله عنه والسدي، المعنيّ ب {الخبيث} الكفار وب {الطيب} المؤمنون.قال القاضي أبو محمد: واللام على هذا التأويل من قوله: {ليميز} متعلقة ب {يحشرون} [الأنفال: 36] والمعنى أن الله يحشر الكافرين إلى جهنم ليميز الكافرين من المؤمنين بأن يجمع الكافرين جميعاً فيلقيهم في جهنم، ثم أخبر عنهم أنهم هم الخاسرون أي الذين خابت سعايتهم وتبت أيديهم وصاروا إلى النار، وقال ابن سلام والزجّاج: المعنيّ ب {الخبيث} المال الذي أنفقه المشركون في الصد عن سبيل الله، و{الطيب} هو ما أنفقه المؤمنون في سبيل الله.قال القاضي أبو محمد: واللام على هذا التأويل من قوله: {ليميز} متعلقة ب {يغلبون} [الأنفال: 36]، والمعنى: الكفار ينفقون أموالهم فتكون عليهم حسرة ثم يغلبون مع نفقتها، وذلك ليميز الله الفرق بين الخبيث والطيب فيخذل أهل الخبيث وينصر أهل الطيب، وقوله تعالى على هذا التأويل {ويجعل الخبيث بعضه على بعض} إلى قوله: {في جهنم} مترتب على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن الله تعالى يخرج من الأموال ما كان صدقة أو قربة يوم القيامة ثم يأمر بسائر ذلك فيلقى في النار، وحكى الزهراوي عن الحسن أن الكفار يعذبون بذلك المال، فهي كقوله: {فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم} [التوبة: 35] وقاله الزجّاج: وعلى التأويلين فقوله: {ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً} إنما هي عبارة عن جمع ذلك وضمه وتأليف أشتاته وتكاثفه بالاجتماع، و{يركمه} في كلام العرب يكثفه، ومنه سحاب مركوم وركام، ومنه قول ذي الرمة: [البسيط]***زع بالزمام وجوز الليلِ مركومُ ** وقوله: {ويجعل الخبيث} بمعنى يلقي، قاله أبو علي، {أولئك هم الخاسرون} على هذه التأويل يراد المنافقون من الكفار، ولفظة الخسارة تليق بهم من جهة المال وبغير ذلك من الجهات، وقوله: {قل للذين كفروا} الآية، أمر من الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار هذا المعنى الذي تضمنه ألفاظ قوله: {إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} وسواء قاله النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العبارة أو غيرها، ولو كان الكلام كما ذكر الكسائي أنه في مصحف ابن مسعود {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لكم} لما تأدت الرسالة إلا بتلك الألفاظ بعينها، هذا بحسب ما تقتضيه الألفاظ، وقوله: {إن ينتهوا} يريد به عن الكفر ولا بد، والحامل على ذلك جواب الشرط ب {يغفر بهم ما قد سلف}، ومغفرة ما قد سلف لا تكون إلا لمنتهٍ عن الكفر، وقوله: {إن يعودوا} يريد به إلى القتال لأن لفظة عاد يعود إذا جاءت مطلقة فإنما تتضمن الرجوع إلى حالة قد كان الإنسان عليها ثم تنقَّل عنها.ولسنا نجد في هذه الآية لهؤلاء الكفار حالة تشبه ما ذكرنا إلا القتال، ولا يصح أن يتأول {وإن يعودوا} إلى الكفر لأنهم لم ينفصلوا عنه وإنما قلنا في عاد إذا كانت مطلقة لأنها قد تجيء في كلام العرب داخلة على الابتداء والخبر بمنزلة صار، وذلك كما تقول عاد زيد ملكاً تريد صار، ومنه قول أبي الصلت: وهذه لا تتضمن الرجوع إلى حالة قد كان العائد عليها قبل، لكنها مقيدة بخبرها لا يجوز الاقتصار دونه، فحكمها حكم صار، وقوله: {فقد مضت سنة الأولين} عبارة بجمع الوعيد والتهديد والتمثيل بمن هلك من الأمم في سالف الدهر بعذاب الله حين صد في وجه نبيه وبمن هلك في يوم بدر بسيف الإسلام والشرع، والمعنى قد رأيتم وسمعتم عن الأمم ما حل.قال القاضي أبو محمد: والتخويف عليهم بقصة بدر أشد إذ هي القريبة منهم والمعاينة عندهم وعليها نص ابن إسحاق والسدي، وقوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} الآية، أمر من الله عز وجل فرض به على المؤمنين أن يقاتلوا الكفار، والفتنة قال ابن عباس وغيره معناها الشرك، وقال ابن إسحاق: معناها حتى لا يفتن أحد عن دينه كما كانت قريش تفعل بمكة بمن أسلم كبلال وغيره، وهو مقتضى قول عروة بن الزبير في جوابه لعبد الملك بن مروان حين سأله عن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة مهاجراً، وقوله: {ويكون الدين كله لله} أي لا يشرك معه صنم ولا وثن ولا يعبد غيره، وقال قتادة حتى تستوسق كلمة الإخلاص لا إله إلا الله.قال القاضي أبو محمد: وهذه المعاني تتلازم كلها، وقال الحسن: حتى لا يكون بلاء، وهذا يلزم عليه القتال في فتن المسلمين الفئة الباغية، على سائر ما ذكرناه من الأقوال يكون المعتزل في فسحة، وعلى هذا جاء قول عبد الله بن عمر رضي الله عنه أما نحن فقد قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وأما أنت وأصحابك فتزيدون أن نقاتل حتى تكون فتنة.قال القاضي أبو محمد: فمذهب عمر أن الفتنة الشرك في هذه الآية وهو الظاهر، وفسر هذه الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله»، ومن قال المعنى حتى لا يكون شرك فالآية عنده يريد بها الخصوص فيمن لا يقبل منه جزية، قال ابن سلام: وهي في مشركي العرب، ثم قال الله تعالى: {فإن انتهوا} أي عن الكفر فإن الله بصير بعملهم مجاز عليه، عنده ثوابه وجميل المعاوضة عليه وقرأ يعقوب بن إسحاق وسلام بن سليمان {بما تعملون} بالتاء أي في قتالكم وجدكم وجلادكم عن دينه.وقوله تعالى: {وإن تولوا} الآية، معادل لقوله: {فإن انتهوا}، والمعنى انتهوا عن الكفر فالله مجازيهم أو مجازيكم على قراءة {تعملون}، وإن تولوا ولم ينتهوا فاعلموا أن الله ينصركم عليهم، وهذا وعد محض بالنصر والظفر، أي فجدوا، و{المولى} هاهنا الموالي والمعين، والمولى في اللغة على معان هذا هو الذي يليق بهذا الموضع منها، والمولى الذي هو السيد المقترن بالعبد يعم المؤمنين والمشركين.
|